السلام في يدي والكبريت في يدك

في زمن عمّت فيه الحروب، وزكمت الأنوف رائحة البارود، وصك الآذان صراخ المستغيثين ونواح الثكالى، وأرعبت العيونَ مناظرُ الدم وأشلاء الممزَّقين، وهُدمت المدن على رؤوس أهلها، وشُرد المستضعفون من مساكنهم، لم يرعوْا فيهم حق شيخ كبير أو طفل يتضور جوعًا يتلفت ذات اليمين وذات الشمال؛ بحثًا عن قارورة حليب، أو لقمة طعام، وناقلات الطائرات والبوارج العسكرية تجوب البحار أكثر مما تتنقل فيها سفن الغذاء وناقلات الدواء.
في هذا الزمن الذي تنام فيه المدن في سلام ثم تفيق على احتلال مفاجئ لم يرعَ حرمة ميثاق، ولا شِرْعة عدل، ولا يخشى غائلة منتقم.
في هذا الزمن الذي بشرنا بعصر الحقوق وحفظها فإذا نحن نتبين أنه لا حقوق لدى سدنة مجلس الأمن إلا لصاحب جِلد أبض يعلق على رقبته صليبه، أما غيرهم فشواهد قتل المدنيين في فلسطين والعراق وغيرها بيد الرصاص المعادي تؤكد أنه لا حق لهم، ولا يستحقون أن يُعتذر لهم، إذْ لا حق لهم في الوجود، فضلاً عن أن يُعتذر لهم أو يعوَّضوا كما عُوض ركاب طائرة (لوكربي)، وخطأهم أنهم وُجدوا أمام مرمى الجند فليحملوا...
في هذا العصر المثخَن بالدم المثقَل بالجراح المملوء بالوعود التي لا تأتي، تأتي الدعوة إلى مؤتمر (أنابولس) للسلام في الشرق الأوسط.
فتعال ننظر لماذا اختير هذا العنوان وما أصله ؟ ومن صاحب السلام فيه ومن مانحه ؟ ومن ومن ومن و....
هذا العنوان جاءت الدعوة إليه من الإدارة الأمريكية المسيطر عليها الحزب اليميني المتطرف بل المتصهين دعاة الأصولية الإنجيلية النصرانية.
ولو وضعت هذه العبارة (اسم المؤتمر) في سياقها الكنسي لاتضح البُعد الديني في اختيار هذا الاسم للمؤتمر؛ فإن هذه العبارة هي جزء من مقولة بولس- منظر النصرانية في قرنها الأول- وهي كالتالي: (السلام بيدي أنا بولس). وهذه هي الفقرة 18 من الإصحاح الرابع من رسالة بولس إلى كولوسي. وهي من رسائل العهد الجديد ضمن الكتاب المقدس المحرَّف، وهذه الرسالة تعطي البشارة لهم بنشر النصرانية، وكيفية نشرها، والوعد بالتأييد لهم من المسيح، وتحقيق الوعود المستقبلية. وهذا مفتتح هذا الإصحاح من هذه الرسالة: (أيها السادة، قدموا للعبيد العدل والمساواة.. ثم بعدها بقليل: واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر، مصلين في ذلك لأجلنا نحن أيضًا، ليفتح الرب لنا بابًا للكلام، لنتكلم بسر المسيح، كي أُظهره كما يجب أن أتكلم. اسلكوا بحكمة من جهة الذين هم من خارج مقتدين الوقت. ليكن كلامكم كل حين بنعمة، مصلحًا بملح، لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد). أيها السادة قدموا للعبيد العدل، وتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل أحد؟؟!!!
وسؤال يطرح نفسه هل الرئيس الأمريكي يعيش أحلام يقظة فيصور أنه رسول من رسل الكنيسة، أو أنه يقوم بدور بولس في تجديد النصراينة؟! هل تصل الخرافة إلى هذا الحد في السيطرة على عقول مصدقيها؟! اللهم لا شماتة، ونسأل الله العافية.
إن الرسائل التي قد تفهم من اختيار هذا الاسم للمؤتمر هي: أن على المنطقة إذا أرادات السلام أن تسير وفق أجندة الأصولية لأن السلام بيد بولس، وأن يقبل العبيد عدل السادة عليهم، ومعذرة للقارئ من هذه الأوصاف فهذه مصطلحاتهم، وهذا أوصافهم لنا.
ومن عرف ما يتضمنه اعتقاد الأصولية الإنجيلية المعاصرة من خزعبلات عن آخر الزمان وما سيكون فيه من أحداث وأن العالم سيشهد انصهارًا كبريتيا يعم الخليقة التي لا تؤمن بالمسيح وأن هناك ملائكة ووحوشًا وكواكب ستنزل من السماء، وأحداثًا عظامًا ستكون، وأن مركز العمق فيها سيكون بابل الشريرة (العراق) وما حولها وأنه لا نجاة إلا للمؤمنين بالمسيح، وأن البقية سيشهدون الانصهار الكوني بالكبريت إلى آخر ما تضمنته رؤيا يوحنا اللاهوتي وتخرصات حزقيال في سفره وكتابه، ومن اطلع على كتاب (وادي الرؤيا) لجورج بوش الجد أستاذ اللغة العبرية في جامعة نيويورك في القرن الثامن عشر وهو ضمن محتويات مكتبة حفيده جورج بوش الابن، أو كتاب النبوءة والسياسة لغرين هالسل- أدرك بيقين البعد الديني للسياسة الأمريكية اليوم وعلم أن القاسم المشترك بين قراراتها والمؤثر فيها هي خرافات الكتاب المقدس المحرَّف، وثلة من المتصهينين المؤمنين بهذه الخرافات. وقد نشرت جريدة الرياض في عدد سابق بتاريخ 23/1/1425 مقالاً للكاتب جهاد فاضل بعنوان (هرمجدون وسفر حزقيال بين بوش وشيراك) ذكر فيه العقيدة المحرضة لغزو العراق وكيف حاول الرئيس بوش إقناع شيراك للاشتراك فيها وعدم قناعة الأخير بذلك.
إذا السلام في البداية وعد به بولس كما مر معنا، ولم يتحقق لهم السلام، بل عاشت النصرانية في كل عصورها فُرقةً وتناحرًا وتشريدًا على أيدي قادتها.
والسلام اليوم المبشِّر به بوش، فهلا كان عنوان المؤتمر (السلام بيدي أنا بوش) بدلاً من (أنا بولس)، والداعي له اليوم داعية حرب وليس داعية سلم في بلاده وفي العالم، بل خاض العالم حروب واضطراب لم يشهده من قبل، فعلى هذا لن يتحقق السلام في هذا المؤتمر، سواء كان اسمه (أنا بولس) أو (أنا بوش).
إن السلام لن يأتي بفرض حق طائفة على حساب الأخرى، ولن يتحقق بظلم فريق من أجل فريق آخر، إن النبوءات الكاذبة لن توصل أصحابها إلى بر الأمان، ولن تجلب السلام للبشرية، إن السلام الحقيقي هو مع دعاة الحق الذي لا ؟؟؟ ولا خلف لوعده هو في قوله تعالى: « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (الأنفال:61). فبأيدينا السلام الحقيقي للبشر، وبأيدهم الكبريت المميت للبشر.
إن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى عدل تام، وعقل راجح، وإنصاف لكل ذي حق، والبشرية اليوم تملك من وسائل التدمير ما لا قبل للبشر به، فالسلاح النووي والجرثومي والكيميائي وتفجير الطائرات والقطارات والمدن والتجمعات والمساجد والأسواق وغيرها، وليس التدمير وقفًا على الدول المتقدمة فتمارس من خلاله إذلالاً للدول الضعيفة، فكم رأينا منظمات صغيرة لا تظهر على السطح تقض مضاجع المدن ومَن فيها، وتُربك السياسات الدولية. إن على كل أمة أن تُلجم سفهاءها وأن تُوضع المواثيق الدولية التي تكفل الحقوق وترعى الحُرُمات.
إننا أحوج ما نكون إلى مؤتمرات جادة تخرج بنتائج مكفولة تُوضع موضع التطبيق، أما أن تأتي المؤتمرات بصيغة استعلائية يخاطب فيها السادة العبيد وتضع الحق في كفة السادة قبل أن يصل أقطاب المؤتمر، فهذا توجيه للمؤتمر قبل حلوله، وسبق لنتائجه وتوجيه له قبل انعقاده، فهل ينجح والسلام بيد (بولس) كما هو العنوان؟؟! أشك في ذلك بل أجزم.